سورة النحل - تفسير تفسير الرازي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (النحل)


        


{أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ (48) وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (49) يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (50)}
في الآية مسائل:
المسألة الأولى: اعلم أنه تعالى لما خوف المشركين بالأنواع الأربعة المذكورة من العذاب أردفه بذكر ما يدل على كمال قدرته في تدبير أحوال العالم العلوي والسفلي وتدبير أحوال الأرواح والأجسام، ليظهر لهم أن مع كمال هذه القدرة القاهرة، والقوة الغير المتناهية لا يعجز عن إيصال العذاب إليهم على أحد تلك الأقسام الأربعة.
المسألة الثانية: قرأ حمزة والكسائي: {أَوَ لَمْ تَرَوْاْ} بالتاء على الخطاب، وكذلك في سورة العنكبوت: {أَوَ لَمْ تَرَوْاْ كَيْفَ يُبْدِئ الله الخلق ثُمَّ يُعِيدُهُ} [العنكبوت: 19] بالتاء على الخطاب، والباقون بالياء فيهما كناية عن الذين مكروا السيئات، وأيضاً أن ما قبله غيبة وهو قوله: {أَن يَخْسِفَ الله بِهِمُ الأرض أَوْ يَأْتِيَهُمُ العذاب * أَوْ يَأْخُذَهُمْ} [النحل: 45، 46] فكذا قوله: {أَوَ لَمْ يَرَوْاْ} وقرأ أبو عمرو وحده: {تتفيؤ} بالتاء والباقون بالياء، وكلاهما جائز لتقدم الفعل على الجمع.
المسألة الثالثة: قوله: {أَوَ لَمْ يَرَوْاْ إلى مَا خَلَقَ الله} لما كانت الرؤية هاهنا بمعنى النظر وصلت بإلى، لأن المراد به الاعتبار والاعتبار لا يكون بنفس الرؤية حتى يكون معها نظر إلى الشيء وتأمل لأحواله، وقوله: {إلى مَا خَلَقَ الله مِن شَيْء} قال أهل المعاني: أراد من شيء له ظل من جبل وشجر وبناء وجسم قائم، ولفظ الآية يشعر بهذا القيد، لأن قوله: {مِن شَيْء يَتَفَيَّؤُاْ ظلاله عَنِ اليمين والشمآئل} يدل على أن ذلك الشيء كثيف يقع له ظل على الأرض. وقوله: {يَتَفَيَّؤُاْ ظلاله} إخبار عن قوله: {شَيْء} وليس بوصف له، ويتفيأ يتفعل من الفيء يقال: فاء الظل يفيء فيئاً إذا رجع وعاد بعد ما نسخه ضياء الشمس، وأصل الفيء الرجوع، ومنه فيء المولي وذكرنا ذلك في قوله تعالى: {فَإِن فاؤا فإن الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [البقرة: 226] وكذلك فيء المسلمين لما يعود على المسلمين من مال من خالف دينهم، ومنه قوله تعالى: {مَّا أَفَاء الله على رَسُولِهِ مِنْهُمْ} [الحشر: 6] وأصل هذا كله من الرجوع.
إذا عرفت هذا فنقول: إذا عدي فاء فإنه يعدى إما بزيادة الهمزة إو بتضعيف العين.
أما التعدية بزيادة الهمزة كقوله: {مَّا أَفَاء الله} وأما بتضعيف العين فكقوله فيأ الله الظل فتفيأ وتفيأ مطاوع فيأ.
قال الأزهري: تفيؤ الظلال رجوعها بعد انتصاف النهار، فالتفيؤ لا يكون إلا بالعشي بعدما انصرفت عنه الشمس والظل ما يكون بالغداة وهو ما لم تنله الشمس كمال قال الشاعر:
فلا الظل من برد الضحى تستطيعه *** ولا الفيء من برد العشي تذوق
قال ثعلب: أخبرت عن أبي عبيدة أن رؤبة قال: كل ما كانت عليه الشمس فزالت عنه فهو فيء وما لم يكن عليه الشمس فهو ظل، ومنهم من أنكر ذلك، فإن أبا زيد أنشد للنابغة الجعدي:
فسلام الإله يغدو عليهم *** وفيوء الغروس ذات الظلال
فهذا الشعر قد أوقع فيه لفظ الفيء على ما لم تنسخه الشمس، لأن ما في الجنة من الظل ما حصل بعد أن كان زائلاً بسبب نور الشمس وتقول العرب في جمع فيء أفياء وهي للعدد القليل، وفيوء للكثير كالنفوس والعيون، وقوله: {ظلاله} أضاف الظلال إلى مفرد، ومعناه الإضافة إلى ذوي الظلال، وإنما حسن هذا، لأن الذي عاد إليه الضمير وإن كان واحداً في اللفظ وهو قوله إلى ما خلق الله، إلا أنه كثير في المعنى، ونظيره قوله تعالى: {لِتَسْتَوُواْ على ظُهُورِهِ} [الزخرف: 13] فأضاف الظهور وهو جمع، إلى ضمير مفرد، لأنه يعود إلى واحد أريد به الكثرة وهو قوله: {مَا تَرْكَبُونَ} هذا كله كلام الواحدي وهو بحث حسن.
أما قوله: {عَنِ اليمين والشمآئل} ففيه بحثان:
البحث الأول: في المراد باليمين والشمائل قولان:
القول الأول: أن يمين الفلك هو المشرق وشماله هو المغرب، والسبب في تخصيص هذين الاسمين بهذين الجانبين أن أقوى جانبي الإنساني يمينه، ومنه تظهر الحركة القوية، فلما كانت الحركة الفلكية اليومية آخذة من المشرق إلى المغرب، لا جرم كان المشرق يمين الفلك والمغرب شماله.
إذا عرفت هذا فنقول: إن الشمس عند طلوعها إلى وقت انتهائها إلى وسط الفلك تقع الإظلال إلى الجانب الغربي، فإذا انحدرت الشمس من وسط الفلك إلى الجانب الغربي وقع الإظلال في الجانب الشرقي، فهذا هو المراد من تفيؤ الظلال من اليمين إلى الشمال وبالعكس، وعلى هذا التقدير: فالإظلال في أول النهار تبتدئ من يمين الفلك على الربع الغربي من الأرض، ومن وقت انحدار الشمس من وسط الفلك تبتدئ الإظلال من شمال الفلك واقعة على الربع الشرقي من الأرض.
القول الثاني: أن البلدة التي يكون عرضها أقل من مقدار الميل، فإن في الصيف تحصل الشمس على يسارها، وحينئذ يقع الإظلال على يمينهم، فهذا هو المراد من انتقال الإظلال عن الأيمان إلى الشمائل وبالعكس. هذا ما حصلته في هذا الباب، وكلام المفسرين فيه غير ملخص.
البحث الثاني: لقائل أن يقول: ما السبب في أن ذكر اليمين بلفظ الواحد، والشمائل بصيغة الجمع؟
وأجيب عنه بأشياء: أحدها: أنه وحد اليمين والمراد الجمع ولكنه اقتصر في اللفظ على الواحد كقوله تعالى: {وَيُوَلُّونَ الدبر} [القمر: 45].
وثانيها: قال الفراء: كأنه إذا وحد ذهب إلى واحدة من ذوات الأظلال، وإذا جمع ذهب إلى كلها، وذلك لأن قوله: {مَا خَلَقَ الله مِن شَيء} لفظه واحد، ومعناه الجمع على ما بيناه فيحتمل كلا الأمرين.
وثالثها: أن العرب إذا ذكرت صيغتي جمع عبرت عن إحداهما بلفظ الواحد كقوله تعالى: {وَجَعَلَ الظلمات والنور} [الأنعام: 1] وقوله: {خَتَمَ الله على قُلُوبِهِمْ وعلى سَمْعِهِمْ} [البقرة: 7].
ورابعها: أنا إذا فسرنا اليمين بالمشرق كانت النقطة التي هي مشرق الشمس واحدة بعينها، فكانت اليمين واحدة.
وأما الشمائل فهي عبارة عن الانحرافات الواقعة في تلك الأظلال بعد وقوعها على الأرض وهي كثيرة، فلذلك عبر الله تعالى عنها بصيغة الجمع، والله أعلم.
المسألة الرابعة: أما قوله: {سُجَّدًا لِلَّهِ} ففيه احتمالات: الأول: أن يكون المراد من السجود الاستسلام والانقياد يقال: سجد البعير إذا طأطأ رأسه ليركب، وسجدت النخلة إذا مالت لكثرة الحمل ويقال: أسجد لقرد السوء في زمانه، أي أخضع له قال الشاعر:
ترى الأكم فيها سجداً للحوافر ***
أي متواضعة، إذا عرفت هذا فنقول: إنه تعالى دبر النيرات الفلكية، والأشخاص الكوكبية بحيث يقع أضواؤها على هذا العالم السفلي على وجوه مخصوصة. ثم إنا نشاهد أن تلك الأضواء، وتلك الإظلال لا تقع في هذا العالم إلا على وفق تدبير الله تعالى وتقديره، فنشاهد أن الشمس إذا طلعت وقعت الأجسام الكثيفة أظلال ممتدة في الجانب الغربي من الأرض، ثم كلما ازدادت الشمس طلوعاً وارتفاعاً، ازدادت تلك الأظلال تقلصاً وانتقاصاً إلى الجانب الشرقي إلى أن تصل الشمس إلى وسط الفلك، فإذا انحدرت إلى الجانب الغربي ابتدأت الأظلال بالوقوع في الجانب الشرقي، وكلما ازدادت الشمس انحداراً ازدادت الأظلال تمدداً وتزايداً في الجانب الشرقي. وكما أنا نشاهد هذه الحالة في اليوم الواحد، فكذلك نشاهد أحوال الأظلال مختلفة في التيامن والتياسر في طول السنة، بسبب اختلاف أحوال الشمس في الحركة من الجنوب إلى الشمال وبالعكس، فلما شاهدنا أحوال هذه الأظلال مختلفة بسبب الاختلافات اليومية الواقعة في شرق الأرض وغربها، وبحسب الاختلافات الواقعة في طول السنة في يمين الفلك ويساره، ورأينا أنها واقعة على وجه مخصوص وترتيب معين، علمنا أنها منقادة لقدرة الله خاضعة لتقديره وتدبيره، فكانت السجدة عبارة عن هذه الحالة.
فإن قيل: لم لا يجوز أن يقال: اختلاف حال هذه الأظلال معلل باختلاف سير النير الأعظم الذي هو الشمس، لا لأجل تقدير الله تعالى وتدبيره؟
قلنا: قد دللنا على أن الجسم لا يكون متحركاً لذاته، إذ لو كانت ذاته علة لهذا الجزء المخصوص من الحركة، لبقي هذا الجزء من الحركة لبقاء ذاته، ولو بقي ذلك الجزء من الحركة لامتنع حصول الجزء الآخر من الحركة، ولو كان الأمر كذلك لكان هذا سكوناً لا حركة، فالقول بأن الجسم المتحرك لذاته يوجب القول بكونه ساكناً لذاته وأنه محال، وما أفضى ثبوته إلى نفيه كان باطلاً، فعلمنا أن الجسم يمتنع كونه متحركاً لذاته، وأيضاً فقد دللنا على أن الأجسام متماثلة في تمام الماهية، فاختصاص جرم الشمس بالقوة المعينة والخاصية المعينة لابد وأن يكون بتدبير الخالق المختار الحكيم.
إذا ثبت هذا فنقول: هب أن اختلاف أحوال الأظلال إنما كان لأجل حركات الشمس، إلا أنا لما دللنا على أن محرك الشمس بالحركة الخاصة ليس إلا الله سبحانه كان هذا دليلاً على أن اختلاف أحوال الأظلال لم يقع إلا بتدبير الله تعالى وتخليقه، فثبت أن المراد بهذا السجود الانقياد والتواضع، ونظيره قوله: {والنجم والشجر يَسْجُدَانِ} [الرحمن: 6] وقوله: {وظلالهم بالغدو والأصال} [الرعد: 15] قد مر بيانه وشرحه.
والقول الثاني: في تفسير هذا السجود، أن هذه الأظلال واقعة على الأرض ملتصقة بها على هيئة الساجد.
قال أبو العلاء المعري في صفة واد:
بحرف يطيل الجنح فيه سجوده *** وللأرض زي الراهب المتعبد
فلما كانت الأظلال تشبه بشكلها شكل الساجدين أطلق الله عليها هذا اللفظ، وكان الحسن يقول: أما ظلك فسجد لربك، وأما أنت فلا تسجد له بئسما صنعت، وقال مجاهد: ظل الكافر يصلي وهو لا يصلي، وقيل: ظل كل شيء يسجد لله سواء كان ذلك ساجداً أم لا.
واعلم أن الوجه الأول أقرب إلى الحقائق العقلية، والثاني أقرب إلى الشبهات الظاهرة.
المسألة الخامسة: وقوله: {سُجَّدًا} حال من الظلال وقوله: {وَهُمْ داخرون} أي صاغرون، يقال: دخر يدخر دخوراً، أي صغر يصغر صغاراً، وهو الذي يفعل ما تأمره شاء أم أبى، وذلك لأن هذه الأشياء منقادة لقدرة الله تعالى وتدبيره وقوله: {وَهُمْ داخرون} حال أيضاً من الظلال.
فإن قيل: الظلال ليست من العقلاء فكيف جاز جمعها بالواو والنون؟
قلنا: لأنه تعالى لما وصفهم بالطاعة والدخور أشبهوا العقلاء.
أما قوله تعالى: {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السموات وَمَا فِي الأرض مَن دَآبَّةٍ والملئكة} ففيه مسائل:
المسألة الأولى: قد ذكرنا أن السجود على نوعين: سجود هو عبادة كسجود المسلمين لله تعالى، وسجود هو عبارة عن الانقياد لله تعالى والخضوع، ويرجع حاصل هذا السجود إلى أنها في نفسها ممكنة الوجود والعدم قابلة لهما، وأنه لا يترجح أحد الطرفين على الآخر إلا لمرجح.
إذا عرفت هذا فنقول: من الناس من قال: المراد بالسجود المذكور في هذه الآية السجود بالمعنى الثاني وهو التواضع والانقياد، والدليل عليه أن اللائق بالدابة ليس إلا هذا السجود ومنهم من قال: المراد بالسجود هاهنا هو المعنى الأول، لأن اللائق بالملائكة هو السجود بهذا المعنى لأن السجود بالمعنى الثاني حاصل في كل الحيوانات والنباتات والجمادات، ومنهم من قال: السجود لفظ مشترك بين المعنيين، وحمل اللفظ المشترك لإفادة مجموع معنييه جائز، فحمل لفظ السجود في هذه الآية على الأمرين معاً، أما في حق الدابة فبمعنى التواضع، وأما في حق الملائكة فبمعنى سجود المسلمين لله تعالى، وهذا القول ضعيف، لأنه ثبت أن استعمال اللفظ المشترك لإفادة جميع مفهوماته معاً غير جائز.
المسألة الثانية: قوله: {مِن دَابَّةٍ} قال الأخفش: يريد من الدواب وأخبر بالواحد كما تقول ما أتاني من رجل مثله، وما أتاني من الرجال مثله، وقال ابن عباس: يريد كل ما دب على الأرض.
المسألة الثالثة: لقائل أن يقول: ما الوجه في تخصيص الدواب والملائكة بالذكر؟ فنقول فيه وجوه:
الوجه الأول: أنه تعالى بين في آية الظلال أن الجمادات بأسرها منقادة لله تعالى وبين بهذه الآية أن الحيوانات بأسرها منقادة لله تعالى، لأن أخسها الدواب وأشرفها الملائكة، فلما بين في أخسها وفي أشرفها كونها منقادة لله تعالى كان ذلك دليلاً على أنها بأسرها منقادة خاضعة لله تعالى.
والوجه الثاني: قال حكماء الإسلام: الدابة اشتقاقها من الدبيب، والدبيب عبارة عن الحركة الجسمانية، فالدابة اسم لكل حيوان جسماني يتحرك ويدب، فلما بين الله تعالى الملائكة عن الدابة علمنا أنها ليست مما يدب، بل هي أرواح محضة مجردة، ويمكن الجواب عنه بأن الجناح للطيران مغاير للدبيب بدليل قوله تعالى: {وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الأرض وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} [الأنعام: 38]، والله أعلم.
أما قوله تعالى: {وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ * يخافون رَبَّهُمْ مّن فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} ففيه مسائل:
المسألة الأولى: المقصود من هذه الآية شرح صفات الملائكة وهي دلالة قاهرة قاطعة على عصمة الملائكة عن جميع الذنوب، لأن قوله: {وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ} يدل على أنهم منقادون لصانعهم وخالقهم وأنهم ما خالفوه في أمر من الأمور، ونظيره قوله تعالى: {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبّكَ} [مريم: 64] وقوله: {لاَ يَسْبِقُونَهُ بالقول وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} [الأنبياء: 27] وأما قوله: {وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} فهذا أيضاً يدل على أنهم فعلوا كل ما كانوا مأمورين به، وذلك يدل على عصمتهم عن كل الذنوب.
فإن قالوا: هب أن هذه الآية تدل على أنهم فعلوا كل ما أمروا به فلم قلتم إنها تدل على أنهم تركوا كل ما نهوا عنه؟
قلنا: لأن كل ما نهي عن شيء فقد أمر بتركه، وحينئذ يدخل في اللفظ، وإذا ثبت بهذه الآية كون الملائكة معصومين من كل الذنوب، وثبت أن إبليس ما كان معصوماً من الذنوب بل كان كافراً، لزم القطع بأن إبليس ما كان من الملائكة.
والوجه الثاني: في بيان هذا المقصود أنه تعالى قال في صفة الملائكة: {وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ} ثم قال لإبليس: {أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ العالين} [ص: 75] وقال أيضاً له: {فاهبط مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا} [الأعراف: 13] فثبت أن الملائكة لا يستكبرون وثبت أن إبليس تكبر واستكبر فوجب أن لا يكون من الملائكة وأيضاً لما ثبت بهذه الآية وجوب عصمة الملائكة، ثبت أن القصة الخبيثة التي يذكرونها في حق هاروت وماروت كلام باطل، فإن الله تعالى وهو أصدق القائلين لما شهد في هذه الآية على عصمة الملائكة وبراءتهم عن كل ذنب، وجب القطع بأن تلك القصة كاذبة باطلة، والله أعلم.
واحتج الطاعنون في عصمة الملائكة بهذه الآية فقالوا: إنه تعالى وصفهم بالخوف، ولولا أنهم يجوزون على أنفسهم الإقدام على الكبائر والذنوب وإلا لم يحصل الخوف.
والجواب من وجهين:
الأول: أنه تعالى منذرهم من العقاب فقال: {وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ إِنّى إله مّن دُونِهِ فذلك نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ} [الأنبياء: 29] وهم لهذا الخوف يتركون الذنب.
والثاني: وهو الأصح أن ذلك الخوف خوف الإجلال هكذا نقل عن ابن عباس رضي الله عنهما، والدليل على صحته قوله تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى الله مِنْ عِبَادِهِ العلماء} [فاطر: 28] وهذا يدل على أنه كلما كانت معرفة الله تعالى أتم، كان الخوف منه أعظم، وهذا الخوف لا يكون إلا خوف الإجلال والكبرياء، والله أعلم.
المسألة الثانية: قالت المشبهة قوله تعالى: {يخافون رَبَّهُمْ مّن فَوْقِهِمْ} هذا يدل على أن الإله تعالى فوقهم بالذات.
واعلم أنا بالغنا في الجواب عن هذه الشبهة في تفسير قوله تعالى: {وَهُوَ القاهر فَوْقَ عِبَادِهِ} [الأنعام: 18] والذي نزيده هاهنا أن قوله: {يخافون رَبَّهُمْ مّن فَوْقِهِمْ} معناه يخافون ربهم من أن ينزل عليهم العذاب من فوقهم، وإذا كان اللفظ محتملاً لهذا المعنى سقط قولهم، وأيضاً يجب حمل هذه الفوقية على الفوقية بالقدرة والقهر كقوله: {وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قاهرون} [الأعراف: 127] والذي يقوي هذا الوجه أنه تعالى لما قال: {يخافون رَبَّهُمْ مّن فَوْقِهِمْ} وجب أن يكون المقتضى لهذا الخوف هو كون ربهم فوقهم لما ثبت في أصول الفقه أن الحكم المرتب على الوصف يشعر بكون الحكم معللاً بذلك الوصف.
إذا ثبت هذا فنقول: هذا التعطيل إنما يصح لو كان المراد بالفوقية الفوقية بالقهر والقدرة لأنها هي الموجبة للخوف، أما الفوقية بالجهة والمكان فهي لا توجب الخوف بدليل أن حارس البيت فوق الملك بالمكان والجهة مع أنه أخس عبيده فسقطت هذه الشبهة.
المسألة الثالثة: دلت هذه الآية على أن الملائكة مكلفون من قبل الله تعالى وأن الأمر والنهي متوجه عليهم كسائر المكلفين، ومتى كانوا كذلك وجب أن يكونوا قادرين على الخير والشر.
المسألة الرابعة: تمسك قوم بهذه الآية في بيان أن الملك أفضل من البشرمن وجوه:
الوجه الأول: أنه تعالى قال: {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السموات وَمَا فِي الأرض مَن دَآبَّةٍ والملئكة} وذكرنا أن تخصيص هذين النوعين بالذكر إنما يحسن إذا كان أحد الطرفين أخس المراتب وكان الطرف الثاني أشرفها حتى يكون ذكر هذين الطرفين منبهاً على الباقي، وإذا كان كذلك وجب أن يكون الملائكة أشرف خلق الله تعالى.
الوجه الثاني: أن قوله تعالى: {وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ} يدل على أنه ليس في قلوبهم تكبر وترفع وقوله: {وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} يدل على أن أعمالهم خالية عن الذنب والمعصية، فمجموع هذين الكلامين يدل على أن بواطنهم وظواهرهم مبرأة عن الأخلاق الفاسدة والأفعال الباطلة، وأما البشر فليسوا كذلك. ويدل عليه القرآن والخبر، أما القرآن فقوله تعالى: {قُتِلَ الإنسان مَا أَكْفَرَهُ} [عبس: 17] وهذا الحكم عام في الإنسان، وأقل مراتبه أن تكون طبيعة الإنسان مقتضية لهذه الأحوال الذميمة، وأما الخبر فقوله عليه السلام: «ما منا إلا وقد عصى أو هم بالمعصية غير يحيى بن زكريا» ومن المعلوم بالضرورة أن المبرأ عن المعصية والهم بها أفضل ممن عصى أو هم بها.
الوجه الثالث: أنه لا شك أن الله تعالى خلق الملائكة قبل البشر بأدوار متطاولة وأزمان ممتدة، ثم إنه وصفهم بالطاعة والخضوع والخشوع طول هذه المدة، وطول العمر مع الطاعة يوجب مزيد الفضيلة لوجهين:
الأول: قوله عليه السلام: «الشيخ في قومه كالنبي في أمته» فضل الشيخ على الشاب، وما ذاك إلا لأنه لما كان عمره أطول فالظاهر أن طاعته أكثر فكان أفضل.
والثاني: أنه صلى الله عليه وسلم قال: «من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة» فلما كان شروع الملائكة في الطاعات قبل شروع البشر فيها لزم أن يقال إنهم هم الذين سنوا هذه السنة الحسنة، وهي طاعة الخالق القديم الرحيم، والبشر إنما جاؤوا بعدهم واستنوا سنتهم، فوجب بمقتضى هذا الخبر أن كل ما حصل للبشر من الثواب فقد حصل مثله للملائكة ولهم ثواب القدر الزائد من الطاعة فوجب كونهم أفضل من غيرهم.
الوجه الرابع: في دلالة الآية على هذا المعنى قوله: {يخافون رَبَّهُمْ مّن فَوْقِهِمْ} وقد بينا بالدليل أن هذه الفوقية عبارة عن الفوقية بالرتبة والشرف والقدرة والقوة، فظاهر الآية يدل على أنه لا شيء فوقهم في الشرف والرتبة إلا الله تعالى، وذلك يدل على كونهم أفضل المخلوقات، والله أعلم.


{وَقَالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (51) وَلَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ (52) وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ (53) ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (54) لِيَكْفُرُوا بِمَا آَتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (55)}
اعلم أنه تعالى لما بين في الآية الأولى أن كل ما سوى الله سواء كان من عالم الأرواح أو من عالم الأجسام، فهو منقاد خاضع لجلال الله تعالى وكبريائه، أتبعه في هذه الآية بالنهي عن الشرك وبالأمر بأن كل ما سواه فهو ملكه وملكه وأنه غني عن الكل فقال: {لاَ تَتَّخِذُواْ إلهين اثنين إِنَّمَا هُوَ إله وَاحِدٌ} وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: لقائل أن يقول: إن الإلهين لابد وأن يكونا اثنين، فما الفائدة في قوله: {إلهين اثنين}.
وجوابه من وجوه:
أحدها: قال صاحب النظم: فيه تقديم وتأخير، والتقدير: لا تتخذوا اثنين إلهين.
وثانيها: وهو الأقرب عندي أن الشيء إذا كان مستنكراً مستقبحاً، فمن أراد المبالغة في التنفير عنه عبر عنه بعبارات كثيرة ليصير توالي تلك العبارات سبباً لوقوف العقل على ما فيه من القبح.
إذا عرفت هذا فالقول بوجود الإلهين قول مستقبح في العقول، ولهذا المعنى فإن أحداً من العقلاء لم يقل بوجود إلهين متساويين في الوجوب والقدم وصفات الكمال، فقوله: {لاَ تَتَّخِذُواْ إلهين اثنين} المقصود من تكريره تأكيد التنفير عنه وتكميل وقوف العقل على ما فيه من القبح.
وثالثها: أن قوله: {إلهين} لفظ واحد يدل على أمرين: ثبوت الإله وثبوت التعدد، فإذا قيل: لا تتخذوا إلهين لم يعرف من هذا اللفظ أن النهي وقع عن إثبات الإله أو عن إثبات التعدد أو عن مجموعهما.
فلما قال: {لاَ تَتَّخِذُواْ إلهين اثنين} ثبت أن قوله: {لاَ تَتَّخِذُواْ إلهين} نهي عن إثبات التعدد فقط.
ورابعها: أن الأثنينية منافية للإلهية، وتقريره من وجوه:
الأول: أنا لو فرضنا موجودين يكون كل واحد منهما واجباً لذاته لكانا مشتركين في الوجوب الذاتي ومتباينين بالتعين وما به المشاركة غير ما به المباينة، فكل واحد منهما مركب من جزأين، وكل مركب فهو ممكن، فثبت أن القول بأن واجب الوجود أكثر من واحد ينفي القول بكونهما واجبي الوجود.
والثاني: أنا لو فرضنا إلهين وحاول أحدهما تحريك جسم والآخر تسكينه امتنع كون أحدهما أولى بالفعل من الثاني، لأن الحركة الواحدة والسكون الواحد لا يقبل القسمة أصلاً ولا التفاوت أصلاً، وإذا كان كذلك امتنع أن تكون القدرة على أحدهما أكمل من القدرة على الثاني، وإذا ثبت هذا امتنع كون إحدى القدرتين أولى بالتأثير من الثانية، وإذا ثبت هذا فإما أن يحصل مراد كل واحد منهما وهو محال، أو لا يحصل مراد كل واحد منهما وهو محال أو لا يحصل مراد كل واحد منهما ألبتة. فحينئذ يكون كل واحد منهما عاجزاً والعاجز لا يكون إلهاً. فثبت أن كونهما اثنين ينفي كون كل واحد منهما إلهاً.
الثالث: أنا لو فرضنا إلهين اثنين لكان إما أن يقدر أحدهما على أن يستر ملكه عن الآخر أو لا يقدر، فإن قدر ذاك إله والآخر ضعيف، وإن لم يقدر فهو ضعيف، والرابع: وهو أن أحدهما إما أن يقوى على مخالفة الآخر، أو لا يقوى عليه فإن لم يقو عليه فهو ضعيف، وإن قوي عليه فذاك الآخر إن لم يقو على الدفع فهو ضعيف، وإن قوي عليه فالأول المغلوب ضعيف. فثبت أن الأثنينية والإلهية متضادتان. فقوله: {لاَ تَتَّخِذُواْ إلهين اثنين} المقصود منه التنبيه على حصول المنافاة والمضادة بين الإلهية وبين الأثنينية. والله أعلم.
واعلم أنه تعالى لما ذكر هذا الكلام قال: {إِنَّمَا هُوَ إله وَاحِدٌ} والمعنى: أنه لما دلت الدلائل السابقة على أنه لابد للعالم من الإله، وثبت أن القول بوجود الإلهين محال، ثبت أنه لا إله إلا الواحد الأحد الحق الصمد.
ثم قال بعده: {فإياي فارهبون} وهذا رجوع من الغيبة إلى الحضور، والتقدير: أنه لما ثبت أن الإله واحد وثبت أن المتكلم بهذا الكلام إله، فحينئذ ثبت إنه لا إله للعالم إلا المتكلم بهذا الكلام، فحينئذ يحسن منه أن يعدل من الغيبة إلى الحضور، ويقول: {فإياي فارهبون} وفيه دقيقة أخرى وهو أن قوله: {فإياي فارهبون} يفيد الحصر، وهو أن لا يرهب الخلق إلا منه، وأن لا يرغبوا إلا في فضله وإحسانه، وذلك لأن الموجود إما قديم وإما محدث، أما القديم الذي هو الإله فهو واحد، وأما ما سواه فمحدث، وإنما حدث بتخليق ذلك القديم وبإيجاده، وإذا كان كذلك فلا رغبة إلا إليه ولا رهبة إلا منه، فبفضله تندفع الحاجات وبتكوينه وبتخليقه تنقطع الضرورات.
ثم قال بعده: {وَلَهُ مَا فِي السموات والأرض} وهذا حق، لأنه لما كان الإله واحداً، والواجب لذاته واحداً، كان كل ما سواه حاصلاً بتخليقه وتكوينه وإيجاده، فثبت بهذا البرهان صحة قوله: {وَلَهُ مَا فِي السموات والأرض} واحتج أصحابنا بهذه الآية على أن أفعال العباد مخلوقة لله تعالى، لأن أفعال العباد من جملة ما في السموات والأرض، فوجب أن تكون أفعال العباد لله تعالى، وليس المراد من كونها لله تعالى أنها مفعولة لله لأجله ولغرض طاعته، لأن فيها المباحات والمحظورات التي يؤتى بها لغرض الشهوة واللذة، لا لغرض الطاعة، فوجب أن يكون المراد من قولنا إنها لله أنها واقعة بتكوينه وتخليقه وهو المطلوب.
ثم قال بعده: {وَلَهُ الدين وَاصِبًا} الدين هاهنا الطاعة، والواصب الدائم. يقال: وصب الشيء يصب وصوباً إذا دام، قال تعالى: {وَلَهُمْ عَذابٌ وَاصِبٌ} [الصافات: 9] ويقال: واظب على الشيء وواصب عليه إذا داوم، ومفازة واصبة أي بعيدة لا غاية لها. ويقال للعليل واصب، ليكون ذلك المرض لازماً له.
قال ابن قتيبة: ليس من أحد يدان له ويطاع، إلا انقطع ذلك بسبب في حال الحياة أو بالموت إلا الحق سبحانه، فإن طاعته واجبة أبداً.
واعلم أن قوله: {واصباً} حال، والعامل فيه ما في الظرف من معنى الفعل.
وأقول: الدين قد يعني به الانقياد. يقال: يا من دانت له الرقاب أي انقادت. فقوله: {وله الدين واصباً} أي انقياد كل ما سواه له لازم أبداً، لأن انقياد غيره له معلل بأن غيره ممكن لذاته، والممكن لذاته يلزمه أن يكون محتاجاً إلى السبب في طرفي الوجود والعدم والماهيات يلزمها الإمكان لزوماً ذاتياً، والإمكان يلزمه الاحتياج إلى المؤثر لزوماً ذاتياً، ينتج أن الماهيات يلزمها الاحتياج إلى المؤثر لزوماً ذاتياً فهذه الماهيات موصوفة بالانقياد لله تعالى أتصافاً دائماً واجباً لازماً ممتنع التغير.
وأقول: في الآية دقيقة أخرى، وهي أن العقلاء اتفقوا على أن الممكن حال حدوثه محتاج إلى السبب المرجح، واختلفوا في الممكن حال بقائه هل هو محتاج إلى السبب؟ قال المحققون: إنه محتاج لأن علة الحاجة هي الإمكان والإمكان من لوازم الماهية فيكون حاصلاً للماهية حال حدوثها وحال بقائها فتكون علة الحاجة حال حدوث الممكن وحال بقائه، فوجب أن تكون الحاجة حاصلة حال حدوثها وحال بقائها.
إذا عرفت هذا فقوله: {وله ما في السموات والأرض} معناه: أن كل ما سوى الحق فإنه محتاج في انقلابه من العدم إلى الوجود أو من الوجود إلى العدم إلى مرجح ومخصص، وقوله: {وله الدين واصباً} معناه أن هذا الانقياد وهذا الاحتياج حاصل دائماً أبداً، وهو إشارة إلى ما ذكرناه من أن الممكن حال بقائه لا يستغني عن المرجح والمخصص، وهذه دقائق من أسرار العلوم الإلهية مودعة في هذه الألفاظ الفائضة من عالم الوحي والنبوة.
ثم قال تعالى: {أفغير الله تتقون} والمعنى: أنكم بعد ما عرفتم أن إله العالم واحد وعرفتم أن كل ما سواه محتاج إليه في وقت حدوثه، ومحتاج إليه أيضاً في وقت دوامه وبقائه، فبعد العلم بهذه الأصول كيف يعقل أن يكون للإنسان رغبة في غير الله تعالى أو رهبة عن غير الله تعالى؟ فلهذا المعنى قال على سبيل التعجب: {أفغير الله تتقون}.
ثم قال: {وما بكم من نعمة فمن الله} وفيه مسائل:
المسألة الأولى: أنه لما بين بالآية الأولى أن الواجب على العاقل أن لا يتقي غير الله، بين في هذه الآية أنه يجب عليه أن لا يشكر أحداً إلا الله تعالى، لأن الشكر إنما يلزم على النعمة، وكل نعمة حصلت للإنسان فهي من الله تعالى لقوله: {وما بكم من نعمة فمن الله} فثبت بهذا أن العاقل يجب عليه أن لا يخاف وأن لا يتقي أحداً إلا الله وأن لا يشكر أحداً إلا الله تعالى.
المسألة الثانية؛ احتج أصحابنا بهذه الآية على أن الإيمان حصل بخلق الله تعالى فقالوا الإيمان نعمة، وكل نعمة فهي من الله تعالى لقوله: {وما بكم من نعمة فمن الله} ينتج أن الإيمان من الله وإنما قلنا: إن الإيمان نعمة، لأن المسلمين مطبقون على قولهم: الحمد لله على نعمة الإيمان، وأيضاً فالنعمة عبارة عن كل ما يكون منتفعاً به، وأعظم الأشياء في النفع هو الإيمان، فثبت أنا لإيمان نعمة.
وإذا ثبت هذا فنقول: وكل نعمة فهي من الله تعالى لقوله تعالى: {وما بكم من نعمة فمن الله} وهذه اللفظة تفيد العموم، وأيضاً مما يدل علىأن كل نعمة فهي من الله، لأن كل ما كان موجوداً فهو إما واجب لذاته، وإما ممكن لذاته، والواجب لذاته ليس إلا الله تعالى، والممكن لذاته لا يوجد إلا لمرجح، وذلك المرجح إن كان واجباً لذاته كان حصول ذلك الممكن بإيجاد الله تعالى وإن كان ممكناً لذاته عاد التقسيم الأول فيه، ولا يذهب إلى التسلسل، بل ينتهي إلى إيجاد الواجب لذته، فثبت بهذا البيان أن كل نعمة فهي من الله تعالى.
المسألة الثالثة: النعم إما دينية وإما دنيوية، أما النعم الدينية فهي إما معرفة الحق لذاته وإما معرفة الخير لأجل العمل به، وأما النعم الدنيوية فهي إما نفسانية، وإما بدنية وإما خارجية وكل واحد من هذه الثلاثة جنس تحته أنواع خارجة عن الحصر والتحديد كما قال: {وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها} [إبراهيم: 34] والإشارة إلى تفصيل تلك الأنواع قد ذكرناها مراراً فلا نعيدها.
المسالة الرابعة: إنما دخلت الفاء في قوله: {فمن الله} لأن الباء في قوله: {بكم} متصلة بفعل مضمر، والمعنى: ما يكن بكم أو ما حل بكم من نعمة فمن الله.
ثم قال تعالى: {ثم إِذا مسكم الضر} قال ابن عباس: يريد الأسقام والأمراض والحاجة: {فإليه تجأرون} أي ترفعون أصواتكم بالاستغاثة، وتتضرعون إليه بالدعاء يقال: جأر يجأر جؤاراً وهو الصوت الشديد كصوت البقرة، وقال الأعشى يصف راهباً:
يراوح من صلوات المليك *** طوراً سجوداً وطوراً جؤارا
والمعنى: أنه تعالى بين أن جميع النعم من الله تعالى، ثم إذا اتفق لأحد مضرة توجب زوال شيء من تلك النعم فإلى الله يجأر، أي لا يستغيث أحداً إلا الله تعالى لعلمه بأنه لا مفزع للخلق إلا هو، فكأنه تعالى قال لهم فأين أنتم عن هذه الطريقة في حال الرخاء والسلامة، ثم قال بعده: {ثم إذا كشف الضر عنكم إذا فريق منكم بربهم يشركون} فبين تعالى أن عند كشف الضر وسلامة الأحوال يفترقون ففريق منهم يبقى على مثل ما كان عليه عند الضر في أن لا يفزع إلا إلى الله تعالى، وفريق منهم عند ذلك يتغيرون فيشركون بالله غيره، وهذا جهل وضلال، لأنه لما شهدت فطرته الأصلية وخلقته الغريزية عند نزول البلاء والضراء والآفات والمخافات أن لا مفزع إلا إلى الواحد، ولا مستغاث إلا الواحد فعند زوال البلاء والضراء وجب أن يبقى على ذلك الاعتقاد، فأما أنه عند نزول البلاء يقر بأنه لا مستغاث إلا الله تعالى، وعند زوال البلاء يثبت الأضداد والشركاء، فهذا جهل عظيم وضلال كامل.
ونظير هذه الآية قوله تعالى: {فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون} [العنكبوت: 65].
ثم قال تعالى: {ليكفروا بما آتيناهم} وفي هذه اللام وجهان:
الأول: أنها لام كي والمعنى أنهم أشركوا بالله غيره في كشف ذلك الضر عنهم. وغرضهم من ذلك الإشراك أن ينكروا كون ذلك الإنعام من الله تعالى، ألا نرى أن العليل إذا اشتد وجعه تضرع إلى الله تعالى في إزالة ذلك الوجع، فإذا زال أحال زواله على الدواء الفلاني والعلاج الفلاني، وهذا أكثر أحوال الخلق.
وقال مصنف هذا الكتاب محمد بن عمر الرازي رحمه الله: في اليوم الذي كنت أكتب هذه الأوراق وهو اليوم الأول من محرم سنة أثنتين وستمائة حصلت زلزلة شديدة، وهذه عظيمة وقت الصبح ورأيت الناس يصيحون بالدعاء والتضرع، فلما سكتت وطاب الهواء، وحسن أنواع الوقت نسوا في الحال تلك الزلزلة وعادوا إلى ما كانوا عليه من تلك السفاهة والجهالة، وكانت هذه الحالة التي شرحها الله تعالى في هذه الآية تجري مجرى الصفة اللازمة لجوهر نفس الإنسان.
والقول الثاني: أن هذه اللام لام العاقبة كقوله تعالى: {فاتقطه آل فرعون ليكون لهم عدواً وحزناً} [القصص: 8] يعني أن عاقبة تلك التضرعات ما كانت إلا هذا الكفر.
واعلم أن المراد بقوله: {بما آتيناهم} فيه قولان: الأول: أنه عبارة عن كشف الضر وإزالة المكروه.
والثاني: قال بعضهم: المراد به القرآن وما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من النبوة والشرائع.
واعلم أنه تعالى توعدهم بعد ذلك فقال: {فتمتعوا} وهذا لفظ أمر، والمراد منه التهديد، كقوله: {فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر} [الكهف: 29] وقوله: {قل آمنوا به أو لا تؤمنوا} [الإسراء: 107].
ثم قال تعالى: {فسوف تعلمون} أي عاقبة أمركم وما ينزل بكم من العذاب والله أعلم.


{وَيَجْعَلُونَ لِمَا لَا يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ تَاللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ (56) وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ (57) وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (58) يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (59) لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (60)}
اعلم أنه تعالى لما بين بالدلائل القاهرة فساد أقوال أهل الشرك والتشبيه، شرح في هذه الآية تفاصيل أقوالهم وبين فسادها وسخافتها.
فالنوع الأول: من كلماتهم الفاسدة أنهم يجعلون لما لا يعلمون نصيباً وفيه مسالتان:
المسألة الأولى: الضمير في قوله: {لما لا يعلمون} إلى ماذا يعود؟ فيه قولان: الأول: أنه عائد إلى المشركين المذكورين في قوله: {إذا فريق منكم بربهم يشركون} [النحل: 54] والمعنى أن المشركين لا يعلمون.
والثاني: أنه عائد إلى الأصنام أي لا يعلم الأصنام ما يفعل عبادها قال بعضهم: الأول أولى لوجوه:
أحدها: أن نفي العلم عن الحي حقيقة وعن الجماد مجاز.
وثانيها: أن الضمير في قوله: {ويجعلون} عائد إلى المشركين فكذلك في قوله: {لما لا يعلمون} يجب أن يكون عائد إليهم.
وثالثها: أن قوله: {لما لا يعلمون} جمع بالواو والنون. وهو بالعقلاء أليق منه بالأصنام التي هي جمادات، ومنهم من قال بل القول الثاني أولى لوجوه:
الأول: أنا إذا قلنا إنه عائد إلى المشركين افتقرنا إلى إضمار، فإن التقدير: ويجعلون لما لا يعلمون إلهاً، أو لما لا يعلمون كونه نافعاً ضاراً، وإذا قلنا إنه عائد إلى الأصنام، لم نفتقر إلى الإضمار لأن التقدير: ويجعلون لما لا علم لها ولا فهم.
والثاني: أنه لو كان العلم مضافاً غلى المشركين لفسد المعنى، لأن من المحال أن يجعلوا نصيباً من رزقهم لما لا يعلمونه، فهذا ما قيل في ترجيح أحد هذين القولين على الآخر.
واعلم أنا إذا قلنا بالقول الأول افتقرنا فيه إلى الإضمار، وذلك يحتمل وجوهاً: أحدها: ويجعلون لما لا يعلمون له حقاً، ولا يعلمون في طاعته نفعاً ولا في الإعراض عنه ضرراً، قال مجاهد: يعلمون أن الله خلقهم ويضرهم وينفعهم، ثم يجعلون لما لا يعلمون أنه ينفعهم ويضرهم نصيباً.
وثانيها: ويجعلون لما لا يعلمون إلهيتها.
وثالثها: ويجعلون لما لا يعلمون السبب في صيرورتها معبودة.
ورابعها: المراد استحقار الأصنام حتى كأنها لقلتها لا تعلم.
المسألة الرابعة: في تفسير ذلك النصيب احتمالات: الأول: المراد منه أنهم جعلوا لله نصيباً من الحرث والأنعام يتقربون إلى الله تعالى به، ونصيباً إلى الأصنام يتقربون به إليها، وقد شرحنا ذلك في آخر سورة الأنعام.
والثاني: أن المراد من هذا النصيب، البحيرة، والسائبة، والوصيلة، والحام، وهو قول الحسن.
والثالث: ربما اعتقدوا في بعض الأشياء أنه إنما حصل بإعانة بعض تلك الأصنام، كما أن المنجمين يوزعون موجودات هذا العالم علىلكواكب السبعة، فيقولون لزحل كذا من المعادن والنبات والحيوانات، وللمشتري أشياء أخرى فكذا هاهنا.
واعلم أنه تعالى لما حكى عن المشركين هذا المذهب قال: {تالله لتسألن} وهذا في هؤلاء الأقوم خاصة بمنزلة قوله: {فوربك لنسألنهم أجمعين * عما كانوا يعملون} [الحجر: 92، 93] وعلى التقديرين فأقسم الله تعالى بنفسه أنه يسألهم، وهذا تهديد منه شديد، لأن المراد أنه يسألهم سؤال توبيخ وتهديد، وفي وقت هذا السؤال احتمالان: الأول: أنه يقع ذلك السؤال عند القرب من الموت ومعاينة ملائكة العذاب، وقيل عند عذاب القبر.
والثاني: أنه يقع ذلك في الآخرة، وهذا أولى لأنه تعالى قد أخبر بما يجري هناك من ضروب التوبيخ عند المسألة فهو إلى الوعيد أقرب.
النوع الثاني: من كلماتهم الفاسدة أنهم يجعلون لله البنات، ونظيره قوله تعالى: {وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثاً} [الزخرف: 19] كانت خزاعة وكنانة تقول: الملائكة بنات الله. أقول أظن أن العرب إنما أطلقوا لفظ البنات لأن الملائكة لما كانوا مستترين عن العيون أشبهوا النساء في الاستتار فأطلقوا عليهم لفظ البنات. وأيضاً قرص الشمس يجري مجرى المستتر عن العيون بسبب ضوئه الباهر ونوره القاهر فأطلقوا عليه لفظ التأنيث فهذا ما يغلب على الظن في سبب إقدامهم على هذا القول الفاسد والمذهب الباطل، ولما حكى الله تعالى عنهم هذا القول قال: {سبحانه} وفيه وجوه:
الأول: أن يكون المراد تنزيه ذاته عن نسبة الولد إليه.
والثاني: تعجيب الخلق من هذا الجهل القبيح، وهو وصف الملائكة بالأنوثة ثم نسبتها بالولدية إلى الله تعالى.
والثالث: قيل في التفسير معناه معاذ الله وذلك مقارب للوجه الأول.
ثم قال تعالى: {ولهم ما يشتهون} أجاز الفراء في ما وجهين:
الأول: أن يكون في محل النصب على معنى ويجعلون لأنفسهم ما يشتهون.
والثاني: أن يكون رفعاً على الابتداء كأنه تم الكلام عند قوله: {سبحانه} ثم ابتدأ فقال: {ولهم ما يشتهون} يعني البنين وهوكقوله: {أم له البنات ولكم البنون} [الطور: 39] ثم اختار الوجه الثاني وقال: لو كان نصيباً لقال ولأنفسهم ما يشتهون، لأنك تقول جعلت لنفسك كذا وكذا، ولا تقول جعلت لك، وأبى الزجاج إجازة الوجه الأول، وقال ما في موضع رفع لا غير، والتقدير: ولهم الشيء الذي يشتهونه، ولا يجوز النصب لأن العرب تقول جعل لنفسه ما تشتهي، ولا تقول جعل له ما يشتهي وهو يعني نفسه. ثم إنه تعالى ذكر أن الواحد من هؤلاء المشركين لا يرضى بالولد البنت لنفسه فما لا يرتضيه لنفسه كيف ينسبه لله تعالى فقال: {وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسوداً وهو كظيم} وفيه مسائل:
المسألة الأولى: التبشير في عرف اللغة مختص بالخبر الذي يفيد السرور إلا أنه بحسب أصل اللغة عبارة عن الخبر الذي يؤثر في تغير بشرة الوجه، ومعلوم أن السرور كما يوجب تغير البشرة فكذلك الحزن يوجبه. فوجب أن يكون لفظة التبشير حقيقة في القسمين، ويتأكد هذا بقوله: {فبشرهم بعذاب أليم} [آل عمران: 21] ومنهم من قال: المراد بالتبشير هاهنا الإخبار، والقول الأول أدخل في التحقيق.
أما قوله: {ظل وجهه مسوداً} فالمعنى أنه يصير متغيراً تغير مغتم، ويقال لمن لقي مكروهاً قد اسود وجهه غماً وحزناً، وأقول إنما جعل اسوداد الوجه كناية عن الغم، وذلك لأن الإنسان إذا قوي فرحه انشرح صدره وانبسط روح قلبه من داخل القلب، ووصل إلى الأطراف، ولا سيما إلى الوجه لما بينهما من التعلق الشديد، وإذا وصل الروح إلى ظاهر الوجه أشرق الوجه وتلألأ واستنار، وأما إذا قوي غم الإنسان احتقن الروح في باطن القلب ولم يبق منه أثر قوي في ظاهر الوجه، فلا جرم يربد الوجه ويصفر ويسود ويظهر فيه أثر الأرضية والكثافة، فثبت أن من لوازم الفرح استنارة الوجه وإشراقه، ومن لوازم الغم كمودة الوجه وغبرته وسواده، فلهذا السبب جعل بياض الوجه إشراقه كناية عن الفرح وغبرته وكمودته وسواده كناية عن الغم والحزن والكراهية، ولهذا المعنى قال: {ظل وجهه مسوداً وهو كظيم} أي ممتلئ غماً وحزناً.
ثم قال تعالى: {يتوارى من القوم من سوء} أي يختفي ويتغيب من سوء ما بشر به، قال المفسرون: كان الرجل في الجاهلية إذا ظهر آثار الطلق بامرأته توارى واختفى عنا لقوم إلى أن يعلم ما يولد له فإن كان ذكراً ابتهج به، وإن كان أنثى حزن ولم يظهر للناس أياماً يدبر فيها أنه ماذا يصنع بها؟ وهو قوله: {أيمسكه على هون أم يدسه في التراب} والمعنى: أيحسبه؟ والإمساك هاهنا بمعنى بمعنى الحبس كقوله: {أمسك عليك زوجك} [الأحزاب: 37] وإنما قال: {أيمسكه} ذكره بضمير الذكران لأن هذا الضمير عائد على ما في قوله: {ما بشر به} والهون الهوان قال النضر بن شميل يقال إنه أهون عليه هوناً وهواناً، وأهنته هوناً وهواناً، وذكرنا هذا في سورة الأنعام عند قوله؛ {عذاب الهون} [الأنعام: 93] وفي أن هذا الهون صفة من؟ قولان: الأول: أنه صفة المولودة، ومعناه أنه يمسكها عن هون منه لها.
والثاني: قال عطاء عن ابن عباس: أنه صفة للأب، ومعناه أنه يمسكها مع الرضا بهوان نفسه وعلى رغم أنفه.
ثم قال: {أم يدسه في التراب} والدس إخفاء الشيء في الشيء. يروى أن العرب كانوا يحفرون حفيرة ويجعلونها فيها حتى تموت.
وروي عن قيس بن عاصم أنه قال: يا رسول الله إني واريت ثماني بنات في الجاهلية فقال عليه السلام: «أعتق عن كل واحدة منهن رقبة» فقال: يا نبي الله إني ذو إبل، فقال: «أهد عن كل واحدة منهن هدياً».
وروي أن رجلاً قال يا رسول الله: ما أجد حلاوة الإسلام منذ أسلمت، فقد كانت لي في الجاهلية ابنة فأمرت امرأتي أن تزينها فأخرجتها إلي فانتهيت بها إلى واد بعيد القعر فألقيتها فيه، فقالت: يا أبت قتلتني، فكلما ذكرت قولها لم ينفعني شيء، فقال عليه السلام: «ما كان في الجاهلية فقد هدمه الإسلام وما كان في الإسلام يهدمه الاستغفار».
واعلم أنهم كانوا مختلفين في قتل البنات فمنهم من يحفر الحفيرة ويدفنها فيها إلى أن تموت، ومنهم من يرميها من شاهق جبل، ومنهم من يغرقها ومنهم من يذبحها، وهم كانوا يفعلون ذلك تارة للغيرة والحمية، وتارة خوفاً من الفقر والفاقة ولزوم النفقة، ثم إنه قال: {ألا ساء ما يحكمون} وذلك لأنهم بلغوا في الاستنكاف من البنت إلى أعظم الغايات، فأولها: أنه يسود وجهه.
وثانيها: أنه يختفي عن القوم من شدة نفرته عن البنت.
وثالثها: أن الولد محبوب بحسب الطبيعة، ثم إنه بسبب شدة نفرته عنها يقدم على قتلها، وذلك يدل على أن النفرة عن البنت والاستنكاف عنها قد بلغ مبلغاً لا يزداد عليه.
إذا ثبت هذا فالشيء الذي بلغ الاستنكاف منه إلى هذا الحد العظيم كيف يليق بالعاقل أن ينسبه لإله العالم المقدس العالي عن مشابهة جميع المخلوقات؟ ونظير هذه الآية قوله تعالى: {ألكم الذكر وله الأنثى * تلك إذاً قسمة ضيزى} [النجم: 21، 22].
المسألة الثانية: قال القاضي: هذه الآية تدل على بطلان الجبر، لأنهم يضيفون إلى الله تعالى من الظلم والفواحش ما إذا أضيف إلى أحدهم أجهد نفسه في البراءة منه والتباعد عنه، فحكمهم في ذلك مشابه لحكم هؤلاء المشركين، ثم قال: بل أعظم، لأن إضافة البنات إليه إضافة قبح واحد، وذلك أسهل من إضافة كل القبائح والفواحش إلى الله تعالى. فيقال للقاضي، إنه لما ثبت بالدليل استحالة الصاحبة والولد على الله تعالى أردفة الله بذكر هذا الوجه الإقناعي، وإلا فليس كل ما قبح منا في العرف قبح من الله تعالى ألا ترى أن رجلاً زين إماءه وعبيده وبالغ في تحسين صورهن ثم بالغ في تقوية الشهوة فيهم وفيهن، ثم جمع بين الكل وأزال الحائل والمانع فإن هذا بالإتفاق حسن من الله تعالى وقبيح من كل الخلق، فعلمنا أن التعويل على هذه الوجوه المبينة على العرف، إنما يحسن إذا كانت مسبوقة بالدلائل القطعية اليقينية، وقد ثبت بالبراهين القطعية امتناع الولد على الله، فلا جرم حسنت تقويتها بهذه الوجوه الإقناعية.
أما أفعال العباد فقد ثبت بالدلائل اليقينية القاطعة أن خالقها هو الله تعالى، فكيف يمكن إلحاق أحد البابين بالآخر لولا شدة التعصب؟ والله أعلم.
ثم قال تعالى: {للذين لا يؤمنون بالآخرة مثل السوء ولله المثل الأعلى} والمثل السوء عبارة عن الصفة السوء وهي احتياجهم إلى الولد، وكراهتهم الإناث خوف الفقر والعار: {ولله المثل الأعلى} أي الصفة العالية المقدسة، وهي كونه تعالى منزهاً عن الولد.
فإن قيل: كيف جاء: {ولله المثل الأعلى} مع قوله: {فلا تضربوا لله الأمثال}.
قلنا: المثل الذي يذكره الله حق وصدق والذي يذكره غيره فهو الباطل، والله أعلم.

4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | 11